سورة مريم - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


{وناديناه مِن جَانِبِ الطور الأيمن} الطورُ جبلٌ بين مصرَ ومدْيَنَ، والأيمنُ صفةٌ للجانب أي ناديناه من ناحيته اليُمنى من اليمين وهي التي تلي يمينَ موسى عليه السلام، أو من جانبه الميمونِ من اليُمن ومعنى ندائِه منه أنْ تمثّل له الكلامُ من تلك الجهة {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} تقريبَ تشريفٍ، مُثّل حالُه عليه السلام بحال من قرّبه الملِكُ لمناجاته واصطفاه لمصاحبته ونجياً أي مناجياً حالٌ من أحد الضميرين في ناديناه أو قربناه، وقيل: مرتفعاً لما روي أنه عليه السلام رُفع في السموات حتى سمع صَريفَ القلم.
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا} أي من أجل رحمتِنا ورأفتِنا له أو بعضِ رحمتنا {أَخَاهُ} أي معاضَدةَ أخيه ومؤازرَتَه إجابةً لدعوته بقوله: {واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى هارون أَخِى} لا نفسَه لأنه كان أكبرَ منه عليهما السلام، وهو على الأول مفعولٌ لوهبنا وعلى الثاني بدلٌ وقوله تعالى: {هارون} عطف بيان له وقوله تعالى: {نَبِيّاً} حال منه.
{واذكر فِى الكتاب إسماعيل} فُصّل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه لإبراز كمال الاعتناءِ بأمره بإيراده مستقلاً وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد} تعليلٌ لموجب الأمر، وإيرادُه عليه السلام بهذا الوصف لكمال شهرتِه به وناهيك أنه وعَدَ الصبرَ على الذبح بقوله: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} فوفّى {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} فيه دِلالةٌ على أن الرسولَ لا يجب أن يكون صاحبَ شريعةٍ، فإن أولادَ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام كانوا على شريعته.
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكواة} اشتغالاً بالأهم وهو أن يُقْبل الرجلُ بالتكميل على نفسه مَنْ هو أقربُ الناس إليه قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة} {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} وقصد إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوةٌ يؤتسى بهم، وقيل: أهلُه أمتُه فإن الأنبياءَ عليهم السلام آباءُ الأمم {وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً} لاتصافه بالنعوت الجليلةِ التي من جملتها ما ذكر من خصاله الحميدة.
{واذكر فِى الكتاب إِدْرِيسَ} وهو سِبطُ شَيْثٍ وجدُّ أبي نوحٍ فإنه نوحُ بنُ لمك بن متوشلح بنِ أُخنوخ وهو إدريسُ عليه السلام، واشتقاقُه من الدّرس يُرده منعُ صرفِه. نعم لا يبعُد أن يكون معناه في تلك اللغة قريباً من ذلك فلُقّب به لكثرة دراسته. روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفةً وأنه أولُ من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب {إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً} ملازماً للصدق في جميع أحوالِه {نَبِيّاً} خبرٌ آخرُ لكان مخصّصٌ للأول، إذ ليس كلُّ صدّيق نبياً.


{وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} هو شرفُ النبوة والزُّلفى عند الله عز وجل، وقيل: علوُّ الرتبة بالذكر الجميل في الدنيا كما في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وقيل: الجنة، وقيل: السماءُ السادسةُ أو الرابعة. روي عن كعب وغيره في سبب رفعِ إدريسَ عليه السلام أنه سُئل ذاتَ يوم في حاجة فأصابه وهَجُ الشمس، فقال: يا رب إني قد مشَيتُ فيها يوماً وقد أصابني منها ما أصابني، فكيف من يحمِلها مسيرةَ خمسِمائة عام في يوم واحد؟ اللهم خففْ عنه من ثِقَلها وحرِّها، فلما أصبح المَلَك وجد من خفة الشمس وحرِّها ما لا يُعرف، فقال: يارب ما الذي قضيت فيه؟ قال: «إن عبدي إدريسَ سألني أن أخففَ عنك حَملَها وحرَّها فأجبتُه» قال: يا رب اجعل بيني وبينه خُلّةً، فأذِن الله تعالى له فرفعه إلى السماء.
{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين في السورة الكريمة وما فيه من معنى البُعد للإشارة بعلوّ رُتَبهم وبُعد منزلتِهم في الفضل وهو مبتدأٌ وقوله تعالى: {الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} صفتُه أي أنعم عليهم بفنون النِعَم الدينيةِ والدنيويةِ حسبما أشير إليه مجملاً وقوله تعالى: {مّنَ النبيين} بيان للموصول وقوله تعالى: {مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ} بدلٌ منه بإعادة الجارِّ ويجوز أن تكون كلمةُ (من) فيه للتبعيض لأن المنعَمُ عليهم أعمُّ من الأنبياء وأخصُّ من الذرية.
{وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي ومن ذرية مَنْ حملنا معه خصوصاً وهم مَنْ عدا إدريسَ عليه السلام، فإن إبراهيمَ كان من ذرية سامِ بنِ نوح {وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم} وهم الباقون {وإسراءيل} عطفٌ على إبراهيمَ أي ومن ذرية إسرائيلَ وكان منهم موسى وهارونُ وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وفيه دليلٌ على أن أولادَ البناتِ من الذرية {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينا} أي ومن جملة من هديناهم إلى الحق واجتبيناهم للنبوة والكرامة، وقوله تعالى: {إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} خبرٌ لأولئك ويجوز أن يكون الخبرُ هو الموصولُ، وهذا استئنافاً مَسوقاً لبيان خشيتِهم من الله تعالى وإخباتِهم له مع ما لهم من علوّ الرتبة وسمُوّ الطبقة في شرف النسَب وكمالِ النفس والزُلفى من الله عز سلطانه، وسجّداً وبُكياً حالان من ضمير خروا أي ساجدين باكين. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اتلوا القرآن وابكُوا فإن لم تبكُوا فتباكوا» والبُكِيُّ جمع باكٍ كالسُّجّد جمع ساجد، وأصله بُكُويٌ فاجتمعت الواوُ والياء وسُبقت إحداهما بالسكون فقُلبت الواوُ ياء وأُدغمت الياءُ في الياء، وحُرّكت الكافُ بالكسر المجانس للباء، وقرئ: {يُتلى} بالياء التحتانيةِ لأن التأنيثَ غيرُ حقيقي، وقرئ: {بِكِيّاً} بكسر الباء للإتباع، قالوا: ينبغي أن يدعوَ الساجد في سجدته بما يليق بآياتها فهنا يقول: اللهُم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهدبين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك وفي آية الإسراء يقول اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وفي آية التنزيل السجدة يقول اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرينعن أمرك.


{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} يقال: لعَقِب الخير خلفٌ بفتح اللام ولعقِب الشرِّ خلْفٌ بالسكون أي فعقَبهم وجاء بعدهم عَقِبُ سوءٍ {أَضَاعُواْ الصلاة} وقرئ: {الصلواتِ} أي تركوها أو أخّروها عن وقتها {واتبعوا الشهوات} من شرب الخمر واستحلالِ نكاحِ الأختِ من الأب والانهماكِ في فنون المعاصي. وعن علي رضي الله عنه عندهم مِنْ بناء المشيَّد وركوبِ المنظور ولُبس المشهور {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} أي شراً فإن كلَّ شر عند العرب غيٌّ وكل خير رشادٌ كقوله:
فمن يلقَ خيراً يحمَدِ الناسُ أمرَه *** ومن يغْوِ لا يعدَمْ على الغي لائما
وعن الضحاك جزاءَ غيَ كقوله تعالى: {يَلْقَ أَثَاماً} أو غياً عن طريق الجنة، وقيل: «غَيٌّ وادٍ في جهنمَ تستعيذ منه أوديتُها» وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صالحا} يدل على أن الآيةَ في حق الكفرة {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البُعد لما مرّ مراراً، أي فأولئك المنعوتون بالتوبة والإيمانِ والعمل الصالح {يَدْخُلُونَ الجنة} بموجب الوعدِ المحتوم وقرئ: {يُدْخَلون} على البناء للمفعول.
{وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} أي لا يُنقَصون من جزاء أعمالِهم شيئاً، أو لا ينقصون شيئاً من النقص، وفيه تنبيهٌ على أن كفرَهم السابقَ لا يضرهم ولا ينقُص أجورَهم.
{جنات عَدْنٍ} بدلٌ من الجنةَ بدلَ البعض لاشتمالها عليها وما بينهما اعتراضٌ أو نصبٌ على المدح، وقرئ بالرفع على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هي أو تلك جنات الخ. أو مبتدأ خبرُه التي وعد الخ، وقرئ: {جنة عدْنَ} نصباً ورفعاً، وعدْنُ علمٌ لمعنى العَدْن وهو الإقامةُ كما أن فيْنةَ وسحرَ وأمسَ فيمن لم يصرِفها أعلامٌ لمعاني الفينةِ وهي الساعة التي أنت فيها والسحرِ والأمسِ فجرى لذلك مجرى العدْن، أو هو علمٌ لأرض الجنة خاصةً ولولا ذلك لما ساغ إبدالُ ما أضيف إليه من الجنة بلا وصفٍ عند غير البصريين ولا صفةٍ بقوله تعالى: {التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ} وجعلُه بدلاً منه خلافُ الظاهر فإن الموصولَ في حكم المشتقّ وقد نصّوا على أن البدَل بالمشتق ضعيفٌ، والتعرضُ لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدَها وإنجازَه لكمال سَعةِ رحمته والباء في قوله تعالى: {بالغيب} متعلقةٌ بمضمر هو حالٌ من المضمر العائدِ إلى الجنات أو من عباده، أي وعدها إياهم ملتبسةً أو ملتبسين بالغيب، أي غائبةً عنهم غيرَ حاضرة أو غائبين عنها لا يرَوْنها وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار، أو بمضمر هو سببُ الوعدِ أي وعدها إياهم بسبب إيمانِهم.
{إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ} أي موعدُه كائناً ما كان فيدخل فيه الجناتُ الموعودةُ دخولاً أولياً، ولما كانت هي مثابةً يُرجَع إليها قيل: {مَأْتِيّاً} أي يأتيه مَنْ وُعِد له لا محالة بغير خُلْف، وقيل: هو مفعولٌ بمعنى فاعل، وقيل: مأتياً أي مفعولاً مُنجَزاً من أتى إليه إحساناً أي فعَلَه.
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} أي فضولَ كلامٍ لا طائلَ تحته وهو كنايةٌ عن عدم صدورِ اللغوِ من أهلها، وفيه تنبيهٌ على أن اللغوَ مما ينبغي أن يُجتنَب عنه في هذه الدارِ ما أمكن {إِلاَّ سلاما} استثناءٌ منقطِعٌ أي لكن يسمعون تسليمَ الملائكة عليهم أو تسليمَ بعضهم على بعض، أو متصلٌ بطريق التعليقِ بالمُحال أي لا يسمعون لغواً ما إلا سلاماً فحيث استحال كونُ السلامِ لغواً استحال سماعُهم له بالكلية كما في قوله:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم *** بهنّ فُلولٌ من قراع الكتائبِ
أو على أن معناه الدعاءُ بالسلامة وهم أغنياءُ عنه فهو من باب اللغو ظاهراً وإنما فائدتُه الإكرامُ وقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} واردٌ على عادة المتنعّمين في هذه الدار، وقيل: المرادُ دوامُ رزقِهم ودُرورُه وإلا فليس فيها بكرةٌ ولا عشيٌّ.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9